بين أنياب الفقر والتهجير.. تصاعد معاناة اللاجئين السوريين في لبنان

بين أنياب الفقر والتهجير.. تصاعد معاناة اللاجئين السوريين في لبنان
لاجئون سوريون في لبنان - أرشيف

بموجات نزوح هائلة استقبل لبنان السوريين منذ اندلاع النزاع قبل أكثر من عقد، ومع التدهور الاقتصادي والسياسي الأخيرين، تحول الصمود اليومي إلى معركة وجودية لعائلات كاملة، حيث يعيش الملايين على هامش الأمن الغذائي، والتعليم المحدود، والمخاطر القانونية والاجتماعية، والتي دفعت الكثير منهم إلى العودة الاضطرارية أو التهجير. 

وبحسب تقديرات حكومية وبيانات وكالات الإغاثة، يعيش في لبنان نحو 1.5 مليون لاجئ سوري، ما أدى إلى ضغط هائل على الموارد والخدمات، في ظل بطء اقتصادي وانكماش دخول أديا إلى تفاقم فقر شامل، حيث تشير التقارير إلى أن تسعة من كل عشرة لاجئين يعيشون في فقر مدقع أو تحت مستوى الفقر، مع قدرة متدنية على شراء الغذاء وتحمل تكلفة الإيجارات.

كما حُرمت أعداد متزايدة من الأطفال السوريين من التعليم النظامي بسبب الشروط الإدارية أو غياب الوثائق الثبوتية، إذ تقر الهيئات الأممية بوجود عشرات الآلاف من الأطفال السوريين خارج المدارس الرسمية نتيجة عراقيل تنظيمية واقتصادية، وهو الثمن طويل الأمد الذي يدفعه اللاجئون في لبنان.

ومنذ نهاية 2024 شهدت المنطقة تحولات دفعت أعداداً كبيرة إلى العودة الطوعية أو الاضطرارية إلى سوريا، في حين أن عمليات طرد وإخطارات إخلاء محلية أجبرت تجمعات لاجئة على التحرك مراراً. 

وبحسب رصد ميداني، صدرت أوامر إخلاء استهدفت عدة تجمعات تمتد على ضفتي نهر الليطاني وأماكن أخرى، مهددة إزاحة آلاف الأشخاص، ومع وجود عروض إعادة توطين أو حوافز مالية تشجع بعض العائلات على العودة، يبقى القلق على السلامة والاستدامة أكبر من أي ضمانات. 

ونتيجة لضغوط الفقر وفقدان السكن والتعرض للعنف والتمييز وغموض المستقبل التعليمي للأطفال، تراكمت آثار نفسية جسيمة لدى اللاجئين، مع زيادة ملحوظة في حالات الصدمات النفسية والاضطرابات المرتبطة بالتوتر، في حين أن البنية الصحية المحلية عاجزة عن استيعاب هذه التداعيات دون دعم دولي.

وفي ظل المطالب بوقف أو تأجيل أوامر الإخلاء إلى حين وضع بدائل سكنية آمنة وإعادة تأهيل التجمعات المتضررة بسوريا، وتمديد برامج المساعدات النقدية والغذائية وربطها بخدمات التعليم والصحة النفسية، وتسهيل تسجيل الأطفال وإزالة الحواجز الإدارية لالتحاقهم بالمدارس الحكومية، يظل اللاجئون السوريون عالقين بين واقعٍ قاسٍ لا يرحم، ومستقبل معلق على وعود لم تكتمل.

ويواجه السوريون في لبنان يومياً معركة البقاء بلا ضمانات حقيقية للحماية أو الاستقرار، في حين تتحول حياتهم إلى انتظار مفتوح، تُؤجل فيه الكرامة، ويُختزل فيه الحق في السكن والتعليم والأمان إلى مطالب إنسانية مؤجلة، وسط الحسابات الضيقة لسياسات اللجوء والعودة. 

فصل من التراجيديا السورية

اعتبر الباحث السوري عبدالرحمن ربوع، "النزوح السوري في لبنان يعد فصلاً موجعاً قائماً بذاته من التراجيديا السورية"، قائلاً: إن الظروف الإنسانية والمعيشية القاسية التي يعيشها الآلاف من السوريين، لم تنته عند هذا الحد، بل امتدت لعدد كبير من أطفالهم، والذين حُرموا من حقهم الأساسي في التعليم، ليكبروا على هامش الحلم والمستقبل معاً.

وأضاف ربوع، في حديثه لـ"جسور بوست"، أنه رغم أن كثيراً من السوريين تمكن من الاندماج جزئياً في سوق العمل اللبناني، فإن حياتهم اليومية لا تزال مثقلة بضيق العيش، نتيجة تدني الأجور وارتفاع تكلفة المعيشة، إلى جانب التراجع الحاد في حجم الدعم الدولي والأممي، وهو ما جعل الاستقرار الاقتصادي شبه مستحيل، وفق ربوع.

ويشير الباحث السوري إلى أن سقوط نظام الأسد كان يُفترض أن يفتح باب العودة أمام معظم النازحين، غير أن الواقع على الأرض في سوريا لا يزال يصد هذه الآمال، لأن المدن والقرى لا تزال مدمرة، والأحياء لم تستعد نبضها بعد، إضافة إلى انتشار الألغام ومخلفات الحرب في كل مكان، وشح فرص العمل وتوقف سبل الإنتاج، كلها عوامل تجعل العودة اليوم خياراً محفوفاً بالمخاطر.

ويؤكد ربوع أن الأوضاع المعيشية داخل سوريا ما تزال في بدايات طريق التعافي، وأن الحديث عن عودة شاملة وسريعة للاجئين والنازحين خلال هذه المرحلة الانتقالية يبدو سابقاً لأوانه.

وبينما يثمن الجهود التي تبذلها الدولة اللبنانية في دعم النازحين السوريين، يرى أن حجم الأعباء يفوق قدرة لبنان على الاحتمال، ما يستدعي دعماً خارجياً عاجلاً من مؤسسات الأمم المتحدة، والدول الأوروبية، والجهات العربية والإقليمية.

وفي المقابل، لا تبدو سوريا نفسها قادرة على تحمل أعباء إعادة اللاجئين، إذ تعاني الحكومة الانتقالية من شح شديد في الموارد، تُستنزف معظمها في تغطية رواتب الموظفين، دون وجود موازنات مخصصة لتمويل عودة ملايين اللاجئين والنازحين من دول الجوار، كلبنان والأردن والعراق وتركيا.

ويشدد ربوع على أن العودة تتطلب جهوداً ضخمة لإعادة بناء وترميم عشرات الآلاف من المنازل، وتأهيل البنية التحتية والخدمات الأساسية في مئات المدن والقرى، وهي عملية تحتاج إلى وقت طويل وتمويل كبير لا يتوافر حالياً، ولا توجد أطراف فاعلة تتكفل به.

ويرجح الباحث السوري أن يشهد عام 2026 بوادر إمكانية لتمويل برامج تعيد جزءاً ملموساً من اللاجئين والنازحين، في حال إنجاز اتفاق العاشر من مارس مع الإدارة الذاتية، وإعادة تأهيل حقول وآبار النفط المعطلة في الجزيرة السورية.

ويخلص ربوع إلى أن إنهاء هذه المأساة المزمنة، لا سيما في لبنان، مرهون بعودة طوعية وآمنة للسوريين، وهو أمر لن يتحقق إلا عبر خطوات جدية في مسار المصالحة الوطنية ومكافحة التطرف واستعادة السلم الأهلي، إلى جانب تدفق تحويلات السوريين في الخارج، وإعادة تنشيط الموانئ الجوية والبحرية وخطوط النقل البرية مع دول الجوار، فضلاً على تنفيذ برامج شاملة لإزالة الألغام ومخلفات الحرب، بما يعيد للحياة إمكانية البدء من جديد.

ذرائع توقف المساعدات 

بدوره، يرى المحلل السياسي اللبناني طارق أبو زينب، في حديثه لـ"جسور بوست"، أن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها لبنان اليوم لم تعد أزمة أرقام أو مؤشرات مالية فحسب، بل تحولت إلى عبء ثقيل يضغط بقسوة على الفئات الأكثر هشاشة، وفي مقدمتها اللاجئون والنازحون السوريون الذين وجدوا أنفسهم عالقين بين الفقر والخوف من المجهول.

وحول تصاعد المخاوف من التهجير، يوضح أبو زينب أن سقوط النظام السابق وما رافقه من حديث عن "تحرير سوريا" استُخدم ذريعة لتوقيف المساعدات التي كانت تقدمها منظمات دولية ومحلية للعائلات السورية في لبنان، بحجة أن الخطر قد زال وأن العودة باتت ممكنة، مشيراً إلى أن من بين الجهات التي اتخذت هذا المسار المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ما وضع آلاف الأسر أمام خيارات قاسية لا تُحتمل.

ويؤكد أن هذا التراجع في الدعم فاقم من معاناة اللاجئين السوريين، الذين باتوا محرومين من كثير من حقوقهم الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، في وقت تتزايد فيه الضغوط المعيشية إلى مستويات باتت تفوق القدرة على الاحتمال، فالعائلات السورية تعيش اليوم تحت وطأة الفقر المدقع، وتكافح لتأمين الحد الأدنى من متطلبات الحياة، من غذاء ودواء وسكن كريم.

ويلفت أبو زينب إلى أن بعض اللاجئين اضطروا، تحت ثقل هذه الظروف القاسية، إلى العودة إلى سوريا رغم غياب مقومات الأمان والاستقرار، إلا أن أعداداً أكبر لا تزال عالقة في لبنان، عاجزة عن العودة بسبب تدمير منازلها خلال سنوات الحرب، وحاجتها إلى إعادة إعمار شاملة غير متوفرة في الوقت الراهن.

ويشدد المحلل اللبناني على ضرورة التعامل مع ملف اللاجئين السوريين من منطلق إنساني بالدرجة الأولى، داعياً إلى الرأفة بهذه العائلات التي أنهكتها سنوات النزوح والفقد، كما يؤكد أن على الحكومة اللبنانية تحمل مسؤولياتها تجاه من يعيشون اليوم على أراضيها، عبر توفير الدعم الأساسي، وتعزيز فرص الوصول إلى التعليم والرعاية الصحية والعمل اللائق، بما يحفظ كرامة الإنسان وحقه في العيش الكريم.

ويختم أبو زينب بالتأكيد على أن أي استجابة حقيقية لهذا الملف لا يمكن أن تكون محلية فقط، بل تتطلب دعماً دولياً جاداً للبنان وللاجئين السوريين معاً، لا سيما من الأمم المتحدة، لضمان حماية الحقوق الإنسانية، ومنع تحول المعاناة المستمرة إلى كارثة إنسانية مفتوحة بلا أفق.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية